رأي

الوعي وصناعة الإبداع!!

بقلم: عيسى المزمومي

في عالم سريع التغيرات، يبرز الوعي كركيزة أساسية لصناعة الإبداع، حيث يتجلى كحالة إنسانية متفردة تجمع بين الإدراك الداخلي والارتباط بالعالم الخارجي. الوعي ليس مجرد إدراك لما يحدث الآن؛ إنه قدرة الإنسان على قراءة اللحظة من منظور عميق، وربط الماضي بالحاضر لاستشراف المستقبل، مما يفتح آفاقًا واسعة للإبداع الذي يُغير الواقع.
الوعي هو الجسر الذي يربط التجربة الذاتية بالأفكار والمشاعر من جهة، والحقائق الموضوعية المحيطة بنا من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن هذا الوعي وحده لا يكفي لصنع الإبداع؛ فهو يتطلب شجاعة لكسر المألوف، ورغبة في الغوص في المجهول، واستعدادًا لاكتشاف الجديد. هنا يكمن دور التأمل في الذات والعالم، حيث يتحول الوعي إلى أداة لاستكشاف أبعاد لم تكن معروفة من قبل!
الإبداع الحقيقي لا ينبع من فراغ، بل هو نتيجة تفاعل عميق بين الوعي الداخلي والخارجي. عندما يصبح الإنسان واعيًا بذاته، يبدأ بفهم نقاط قوته وضعفه، وأحلامه ومخاوفه. هذا الفهم هو الخطوة الأولى للتحرر من قيود الأنماط التقليدية التي تعيق التفكير الخلاق.
في لحظات الصمت والتأمل، يتلاشى ضجيج العالم الخارجي ليبقى صوت واحد: صوت الوعي. هنا تتحرر الأفكار من قيود التوقعات الاجتماعية، ويبدأ العقل في رؤية العالم من زوايا غير مألوفة. هذه اللحظات هي التي تحفز الإبداع، حيث يتحول العادي إلى استثنائي، والمألوف إلى مدهش.
الإبداع ليس تجربة فردية فحسب؛ إنه قوة قادرة على تغيير المجتمعات للأفضل. الفرد الواعي، الذي يستخدم وعيه لإطلاق طاقاته الإبداعية، يصبح عنصرًا مؤثرًا في محيطه. فهو لا يكتفي بابتكار الأفكار، بل يساهم في بناء علاقات إنسانية أكثر عمقًا، ومجتمعات أكثر وعيًا بذاتها.
ومع ذلك، فإن الوعي مسؤولية ثقيلة تتطلب حضورًا يقظًا وتواضعًا أمام تعقيدات الحياة. الوعي الحقيقي ليس حالة ثابتة، بل هو عملية مستمرة من التعلم، وإعادة التقييم، والتكيف مع المتغيرات.
في وطننا المملكة العربية السعودية، برزت أسماء واعية صنعت إبداعًا متميزًا، من بينها المخرج والمنتج والكاتب محمود صباغ، الذي يُعد أحد أبرز رواد السينما في المملكة. صباغ، الذي وُلد في جدة عام 1983م، درس السينما الوثائقية في نيويورك، ليصبح نموذجًا للفرد الواعي الذي يُسخّر إدراكه العميق لتحويل أحلامه إلى واقع ملموس.
قدم صباغ أفلامًا تركت بصمة في المشهد السينمائي السعودي والدولي. فيلمه “بركة يقابل بركة”، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي عام 2016م، لم يكن مجرد فيلم؛ بل كان انعكاسًا لرؤية عميقة تجمع بين السرد الإنساني والبُعد الثقافي. الفيلم هو أول فيلم سعودي طويل يُعرض في المهرجان، وأول فيلم سعودي يُرشح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية.
وفي عام 2018م، قدّم صباغ فيلمه الثاني “عمرة والزواج الثاني”، الذي صُوّر بالكامل داخل المملكة وعُرض في مهرجان لندن السينمائي الدولي. كما عمل على فيلمه الأخير “آخر سهرة في طريق ر” عام 2024م، ليقدم فكرًا جديدًا وإبداعيًا، مؤكدًا بذلك حضوره كصانع وعي وثقافة يُبدع لتغيير السرديات التقليدية وفتح آفاق جديدة.
الإبداع هو التعبير الأسمى عن الوعي؛ لحظة يتوحد فيها الحدس بالمعرفة، والذات بالآخر. وكلما تعمق الوعي، زاد الإبداع، وكلما زاد الإبداع، ارتقى الوعي.
إن قصصًا مثل قصة محمود صباغ تؤكد أن الوعي ليس مفتاحًا للنجاح الشخصي فحسب، بل قاعدة أساسية لبناء مجتمعات أكثر تقدمًا وابتكارًا. دعونا نستلهم من هذه النماذج، ونجعل من الوعي ركيزة حياتنا، ومن الإبداع طريقنا نحو عالم أفضل يخدم الإنسانية والمجتمع!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى