رأي

الحلقة الحادية عشر رمضان في ذاكرة الزمن الجميل!

بقلم: عيسى المزمومي

في ذاكرة الزمن، يظل شهر رمضان المبارك محطةً روحية تتجدد فيها القيم، ويزدهر فيها العطاء، وتتجلى فيها أسمى معاني الإنسانية. هو شهر تتسارع فيه القلوب نحو الخير، وتشتعل فيه جذوة الرحمة في النفوس، حيث يصبح العطاء لغةً عالمية يتحدثها الجميع دون استثناء. في هذا السياق، يبرز نموذج إنساني مشرف، متمثلًا في الأستاذة خضراء المبارك، التي جعلت من التطوع فلسفةً للحياة، ومن العطاء مسيرةً لا تنقطع.
رمضان ليس مجرد شهر للصيام والعبادة، بل هو فرصة ذهبية للارتقاء بالنفس والمجتمع. هو الزمن الذي تذوب فيه الفوارق بين الناس، حيث يقف الجميع على أرضية مشتركة من الإنسانية والتراحم. في هذا الشهر، ونحن في اليوم الحادي عشر من روزنامة هذا الشهر الكريم، يُفتح الباب على مصراعيه أمام العمل التطوعي، ليكون وسيلة لنشر الخير وتكريس ثقافة التعاون بين أفراد المجتمع.
تتجلى روح التطوع في رمضان في صور عديدة، أبرزها حملات الإفطار الجماعي، حيث تمتد موائد الخير للصائمين، وتعكس روح الكرم والتلاحم الاجتماعي. فهذه المبادرات ليست مجرد أطباق تُقدم، بل هي رسائل محبة، ولحظات من التقارب الإنساني الذي يجعل الجميع يشعرون بأنهم جزء من عائلة كبيرة. كما أن دعم الجمعيات الخيرية يصبح أكثر حضورًا في رمضان، حيث تتعاظم الحاجة إلى مساهمات الأفراد، سواء كان ذلك عبر التبرع بالمال، أو الوقت، أو المهارات. فالتطوع لا يقتصر على تقديم المساعدات المادية فقط، بل يشمل أيضًا نقل المعرفة، من خلال تنظيم ورش عمل ودورات تعليمية للأطفال والشباب، بما يعزز من روح المسؤولية المجتمعية لديهم.
في خضم هذا الحراك الإنساني، نجد أن الأستاذة خضراء المبارك لم تكن مجرد شخصية مهتمة بالتطوع، بل كانت حجر الأساس في نشر ثقافة العطاء المنظم. فقد استطاعت أن تنقل العمل التطوعي من كونه مجرد رغبة فردية إلى منظومة مؤسسية فاعلة، تعمل على بناء مجتمع أكثر تلاحمًا واستدامة.
ما يميزها أنها لم تكتفِ بالعمل التطوعي في شكله التقليدي، بل سعت إلى خلق بيئة تعليمية داخله، حيث أدركت أن المتطوع يحتاج إلى التأهيل والتدريب ليكون أكثر فاعلية وكفاءة. فالكثيرون يدخلون هذا المجال بحماس، لكن دون خبرة أو توجيه، مما قد يؤدي إلى الإحباط. لهذا، عملت على ترسيخ مفهوم التدريب والتأهيل التطوعي، ليصبح المتطوع قادرًا على إحداث تأثير حقيقي ومستدام.
وترى المبارك أن التطوع يتناغم مع الفطرة الإنسانية، لكنه يحتاج إلى تعزيز منذ الطفولة، عبر إدماجه في المناهج الدراسية والأنشطة الجامعية، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوين شخصية الفرد. كما تؤكد أن التطوع اليوم أصبح أحد متطلبات النجاح المهني، حيث يعكس مدى وعي الفرد بمسؤوليته تجاه مجتمعه.
لا يمكن لأي حركة مجتمعية أن تزدهر دون دعم إعلامي يعزز انتشارها، وهنا يأتي دور الإعلام في إبراز قيم التطوع. فالتطوع ليس مجرد أعمال خيرية فردية، بل هو حراك مجتمعي متكامل يحتاج إلى تسليط الضوء عليه، من خلال القصص الملهمة، والمبادرات الناجحة، والتوعية المستمرة.
وقد نادت المبارك بضرورة أن يكون للإعلام السعودي دور أكثر عمقًا في هذا المجال، ليس فقط عبر نقل الأخبار، بل من خلال خلق محتوى هادف يساهم في غرس هذه الثقافة في المجتمع، ويجعلها جزءًا من الهوية الوطنية.
رمضان ليس فقط شهرًا للأعمال الصالحة، بل هو أيضًا فرصة للتأمل والتفكر. في هذا الشهر، نكتشف أن العطاء ليس مجرد تضحية، بل هو وسيلة للنمو الذاتي. فمن يعطي، يشعر بسعادة لا تُضاهى، ومن يساعد، يجد في داخله طاقة متجددة من الرضا والامتنان. التطوع في رمضان يُعيد تعريف العلاقات الإنسانية، حيث يدرك الإنسان أن قيمته الحقيقية تكمن في تأثيره الإيجابي على الآخرين. وهو أيضًا فرصة لنشر الوعي المجتمعي، حيث يمكن لكل فرد أن يكون جزءًا من منظومة الخير، مهما كان دوره صغيرًا.
إن رمضان ليس مجرد ذكرى تتكرر كل عام، بل هو مدرسة متجددة تعلّمنا كيف يكون العطاء أسلوب حياة. وما تقدمه شخصيات مثل الأستاذة خضراء المبارك ليس مجرد جهد فردي، بل هو نموذج لرؤية متكاملة تجعل من التطوع ركيزة أساسية في بناء المجتمع. يبقى التطوع في رمضان تجربة فريدة، حيث يكتشف الإنسان ذاته من خلال خدمة الآخرين، ويرسم ملامح أثر لا يزول في حياة من حوله. فليكن رمضان بدايةً جديدة لكل من يريد أن يترك بصمة في الحياة، ولنجعل من العطاء رحلة مستمرة تتجاوز حدود الزمن!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى