الحلقة الثانية عشرة: رمضان في ذاكرة الزمن الجميل!

بقلم: عيسى المزمومي
رمضان ليس مجرد شهر يمر في زماننا، بل هو تجربة متجددة تعكس تحولات الزمن وتغيرات المجتمع. هو الشهر الذي يختبر فيه الإنسان صموده أمام مغريات الحياة، ويمتحن قدرته على ضبط النفس والتحكم في الشهوات، ليخرج من أيامه أكثر نضجًا وقوة. وكما يتغير الناس وتتبدل العادات، كذلك تتغير ملامح رمضان بين الماضي والحاضر، لكن جوهره يظل ثابتًا، يحمل معه روحانية خاصة ودروسًا خالدة في تطوير الذات.
في الماضي، كان رمضان يُعاش ببساطة مفعمة بالروحانية والسكينة. كان الناس يجتمعون حول موائد الإفطار، تتشابك أيديهم قبل قلوبهم، وتتناغم أرواحهم في لحظات لا تُنسى. كانت المجالس تعج بأصوات ترتيل القرآن، وكانت المساجد تمتلئ بالمصلين، ينهلون من نور العبادة والقرب من الله. كان لهذا الشهر طابع اجتماعي خاص، حيث يكثر التزاور، وتنتشر المودة بين الجيران، ويتسابق الجميع في فعل الخير.
أما اليوم، فقد تبدلت الكثير من هذه العادات، وأصبحت التكنولوجيا عاملاً رئيسيًا في تشكيل تجربة رمضان الحديثة. لم تعد العائلات تجتمع كما في السابق، فقد حلت الشاشات محل الأحاديث، وصار الكثيرون يعيشون رمضانهم بين ضغوط العمل والانشغال بالهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن جوهر الشهر لا يزال قائمًا، وما زال يحمل في طياته فرصًا عظيمة للتأمل، والتطوير الذاتي، وتجديد النية. إن الصيام ليس مجرد انقطاع عن الطعام والشراب، بل هو تدريب عملي على الصبر والانضباط، وهو مدرسة لإعادة ضبط السلوكيات والعادات. في الماضي، كان رمضان يُستغل في ترويض النفس، واليوم لا تزال أمامنا فرصة لنستعيد هذا المفهوم، ولكن بأساليب تتناسب مع العصر. يمكننا استخدام التكنولوجيا بشكل إيجابي خلال هذا الشهر، عبر تطبيقات تساعدنا على قراءة القرآن، وتنظيم أوقات الصلاة، وتعزيز العمل الخيري من خلال منصات التبرع الإلكتروني. كما يمكن أن يكون رمضان فرصة لمراجعة الأولويات، والتخفف من الاستهلاك المفرط سواء في الطعام أو الوقت، والتركيز على الأهداف التي تسهم في بناء شخصيتنا وتطوير ذواتنا.
ربما نجد تشابهًا كبيرًا بين تجربة رمضان ورحلة النجاح في الحياة، فكلتاهما تتطلب الصبر، والإصرار، والإيمان بالهدف. وهنا نجد مثالًا فريدًا في ابن صفوى “الفنان حسين قريش”، الذي رغم غيابه عن الساحة الفنية، يعود دائمًا ليؤكد أن الموهبة الحقيقية لا تموت، تمامًا كما أن القيم الرمضانية لا تزول مهما تغير الزمن!
لقد بدأ حسين قريش مسيرته في زمن كان للفن فيه طابع أصيل، حيث لم تكن النجومية تُشترى بالتسويق والدعاية، بل كانت تُصنع بالصوت والإحساس. ومع ذلك، لم يحصل على حقه الكافي من الانتشار بسبب تحكم المنتجين في السوق، لكنه لم يستسلم، بل بقي مؤمنًا بموهبته، حتى عاد اليوم بصوت أكثر نضجًا، وبتجربة أكثر عمقًا.
إن قصة حسين قريش ليست مجرد حكاية عن فنان، بل هي قصة كل شخص يواجه تحديات الحياة، ويؤمن بأن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالشهرة السريعة، بل بالقدرة على الاستمرار رغم الصعوبات. إنها رسالة لكل من يسعى إلى تحقيق ذاته، بأن الأهم ليس الوصول بسرعة، بل الوصول بثبات، وبقيمة حقيقية تبقى في الذاكرة.إذا كان رمضان في الماضي يزخر بالمحبة والبساطة والروحانية، فإنه في الحاضر ما زال يحمل الفرصة لنعيش هذه المعاني، لكن بأسلوب مختلف. يمكننا أن نعيد إليه رونقه بأن نحرر أنفسنا من الانشغال الزائد بالماديات، ونركز على القيم الأساسية التي يحملها، من تضحية، وعطاء، وتأمل، وسعي نحو الأفضل.
وكما عاد، في كل غياب “حسين قريش” ليؤكد أن الفن الأصيل لا يموت، علينا أن نعود نحن أيضًا لنؤكد أن قيم رمضان لا تندثر، بل تحتاج منا فقط إلى أن نحييها في قلوبنا وسلوكياتنا. رمضان هو فرصة لمنح أنفسنا بداية جديدة، وأملًا جديدًا، وروحًا أكثر نقاءً.. فهل نملك الشجاعة لنستثمره كما يجب؟!
ربما كانت هذه المقالة عن رمضان، وربما كانت عن الحياة كلها، لكنها في الحقيقة عنك أنت.. وعن اختيارك لما تريد أن تكون عليه، اليوم وغدًا وبعد رمضان!