عر ف الفلكلور العربي ّ على مر التاريخ بغناه ، وبروافده الزاخرة بالقيم الفنيّة الجماليّة المشعبة بالحماس ، ولعل الرقص ذاك الفن الشعبي البسيط جسد الكثير من تلك الصور الفنيّة الجميلة ، وأقدم تلّك الألوان الرقص والذي ظهر بصورته البسيطة برقصة الدحّة (الدحية ) ، لا زالت الدحية تمارس في العديد من الدول المحصورة بين شمال السعودية وحتى الحدود التركية .. ومن الأهواز شرقا وحتى الضفة وفلسطين غربا ، وقد تطورت لعدة ألوان فنية منها الدبكة والجوبي ، فكل رقصة تقوم على أساس صفّ من الراقصين المتكاتفين و متشابكي الأكف مع حركات الأرجل ؛ تنحدر من الدحية و أقدم لكم اليوم هذه الإضاء ة حول الدحية .
الدحّة (الدحية ) :
رقصة بدويّة قديمة تمارس قبل المعارك لإثارة الحماسة ، ونهاية المعارك احتفالا بالنصر ولوصف أحداث المعركة شعرا ، وأصبحت كذلك من ضمن طقوس المناسبات والأعراس والأعياد .
الدحية فن شعبيّ يجمع الشعر والرقص والأهازيج ، تعتمد الأداء الصوتيّ وضط النَّفس كضابط لإيقاعها ، فتبدو أحيانا كزئير الأسود أو هدير الجمال .
تعر ف الدحية بسهولة أبياتها الشعريّة .. والّتي تنطلق من قاعدة ثابتة للقافية ، وللشاعر فيها ما يشاء مع الإرتكازاعلى قاعدة الشطر الأخيرمن الكوبليه الأوّل من مجموعة البيت الأول، فكلمات الشاعر كمقطوعة سرديّة قصصيّة هي جوهر لمعركة ما أو وصف لديار أو هجاء أو مدح.
نشأتها :
الدحية كغيرها من إرثنا الشعبيّ اختلف المؤرخون حول نشأته وأصوله ، وبين هذا وذاك الاختلاف وقف الجميع على بعض الروايات الّتي تكرّرت حول نشأت الدحية ، ولعل الرواية الأقرب هي قصة قافلة صغيرة من البدو خرجوا على جمالهم وأثناء استراحتهم للمبيت ليلا ، شعروا أن أحد يقترب منهم ويراقبهم ، ذعروا خشية أن يكونوا لصوص أو قطاع طرق ؛ واستباقا لما قد يحدث عمدوا إلى الحيلة واتفقوا على إصدار أصوات وجعجة تشبه صوت الإبل ونفذوا ما خططوا له ، انطوت الحيلة على تلك المجموعة ففروا ظنا منهم بأن عدد أفراد القافلة كثير ، حدثوا أهلهم حين عودتهم عن تلك الحيلة فأصبحت رواية يتناقلها العرب ، وأصبحت مع الأيام عادة فرقصة أدخل فيها الشعر – المصنّع- والرقصات – ويسمى الراقص بالحاشي-.
وهنالك رواية بعيدة كل البعد عن الصحّة .. تربط نشأت الدحية بمعركة ( ذي قار ) ، وأن تلّك المعركة انطلاقة للدحية وأنها احتفالا بالنصر على كسرى ، وتلبية القبائل العربية لاستغاثة لهند بنت المنذر في العراق ؛ حيث وقف الرجال جميعاً بصفّ واحد يؤدون هذا اللون الشعبي الاصيل تعبيراً عن نخوتهم وشهامتهم لبنت المنذر.
والبعض ينسبها ل”دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي ” الصحابي المعروف.
الأسلوب وطريقة الأدا ء :
يقف قرابة ال20 شخصا بصفّ واحد ويطلق عليهم إسم الردادة (الرواديد ) ، يقف أمامهم الشاعر مقابلا لمنتصف الصفّ ، يغني القصيد – المصنّع – والذي يشبه الهجينيّ وبما يكون القصيد كما أسلفنا فخرا أو مدحا أو غزلا ، وبعد كل بيت يقوله الشاعر يردّد الصفّ قولهم وغالبا تكون لازمة الأدا ء ، وير ى البعض أن المجزوء وزنا أصعب من الكامل شعرا ، وكذلك تكمن الصعوبة بالتزام الشاعر بنظم بيتا جديدا في أقل من عشر إلى عشرين ثانية ، أي أثناء ترديد الصفوف للبيت “هلا هلابه ياهلا …. لا يا حليفي ياولد” مرة أو مرتين على الأكثر، ولذلك فإن قلّة قلّيلة من الشعراء من يستطيع أدا ء الدحية .
أحيانا يتواجد الحاشي أو المحوشي أمام الصف أو بين الصفين ويقوم برقصة المحوشي «المحوشاه» بين الصفين.
و يرافق الدحة – الحاشي- وهو من يضع العباءة على رأسه ويراقص الردادة بالسيف ، وربما يكون الحاشي أنثى تتحدى الراقصون ، يتخلّل أبيات الدحية الأصوات التي تشبه هدير الجمال أو زئير الاسود “الدح الدح الدحية .. الدح الدح الدحية ” مع أصوات النفس العاليّة ، فيبدأ الصفّ – بالنقلة- الخفيفة من صفقات متقطعة ، ليزداد الحماس والصوت والصفقات إلى أن تستمر على وتيرة واحدة. و الدحيه تستعمل التصفيق كلون إيقاعيّ، مع تواصل النفس دون انقطاع ، و الأدا ء الحركي يفرض على المشارك التوافق بين أدائه الحركيّ والتنفسيّ ، حتى يتمكن من مجاراة باقي المشاركين.
يسمى شاعر الدحية بالبداع وقصيدة الدحية تعرف لدى البعض بالبدعة.
عام 2018 سجلت الدحية في لائحة التراث العالميّ من قبل منظمة اليونسكو .. ضمن قا ئمة التراث الثقافيّ غير الماديّ للبشريّة ، وذلك من قبل لجنة صون التراث الثقافيّ غير الماديّ المنعقد في “بورت لويس” في جزر موريشيوس.
تعتبر قصيدة “حامد بن سعدنة” الأطول في تاريخ الدحية ، حيث يؤرّخ البعض بأنها استمرت ليلّة كاملة ،وصف فيها كلّ ما حدث في تلك المعركة .
هَلَّا هَلَّا بِك ياهْلَا . . لَاياحليفي ياوْلَا ي
يأمل قلْب على ميهَاف ؟؟متَولع والْقدم حَافِي
عليْك يَا أَبُو ثَمَان رِهَاف.. اِنْته سبب دايْ وأتَّلافي
وَاَللَّه لَولَا الحياء لَانُوح ..كنَّ كسير يمْلونه
خلُوه وسط العضْنَا ..مَسدُوح والْجَمْر فوقه يهلونَه
هَلَّا هَلَّا بِك ياهْلَا . . لَاياحليفي ياوْلَا ي
يوْم اَللَّه جابْن بالسَّامر ..بطمومَا واللَّعب عَامِر
بحسيّ وَاَللَّه مَا غَامر ..مَا غَامر على الشرْداني
ما شفتِي يا ملَّا النجْم ..والبزر يهجمنا هجم
وحنّا نتدرق بالرجم ..صِرْنَا للْبزر نِيشاني
أيستْ الرَجعة لدياري.. ووقاني ربَّ الأدْياني
يوْم إنِي طبيتْ الجمَّة.. نطيحي ما عاد أذمه
عقبته رأسُه والرمَّة.. شلَّته مِن بين الأمتاني
إّن ذبحتيني ياذبحه ..غريب ولا حدن باكيني
وإن خليتيني يا ذبحه أميّ عجوز وترجيني
============================
هَلَّا هَلَّا بِك ياهْلَا . . لَاياحليفي ياوْلَا
يامحلَا طاروق الدحه .. لا وافق له صوت وبحّة
صفّينِ وحاشي ومصنع . . وبيوت الشاعر ممليه
متون تدحم بعضها ..وقلوب زايل مرضها
وأصوات سباع بتاعة . . مية مية . . مية مية
غناها عمّي مع خالي ..وأنا أغنيها ل عيالي
تَاريخ وبصمة معروفة . . أَصلية من بطْن أَصلية
لعبَة حَرب وَلعبَة هيبَة ..مَا فِيهَا حَاجَة مُعِيبَة
لا واَللَّه نفخر لَا قلنَا . . دحيَة يَا أَهْلنا
مَاهِي لعبَة هِشك بِشكّ .. مَصيُونة عن نِيَّات اَلشَّك